لا إِكراهَ فِى الدّينِ | وحرية المعتقد في القرآن
بقلم شبير اللواتي
بسمه تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ (٢٥٦)}
لابد لنا في سعينا لفهم الآية الكريمة من عدّة وقفات، نتوقّف أولًا عند مفردة "الدين" فنقول: يمكن لنا تقسيم الموارد التي جاءت فيها هذه المادة في القرآن الكريم إلى قسمين، قسم مرتبطٌ بالجزاء، والمورد البارز منه قوله سبحانه وتعالى {مالك يوم الدّين}.
أمّا القسم الثاني فهو مجيئها بالمعنى المرتبط بالتديّن لله، أي بالالتزام القلبي المؤثّر على السلوك. وهذا أيضًا له نحوان، الأوّل ما جاءت فيه على طبق هيئتها - وهي هيئة المصادر كالشرب، والمشي وغيرها - فدلّت على نفس العملية هذه، عمليّة عقد القلب والالتزام، وجاء ذلك في [١] قوله سبحانه وتعالى {وَ مَنْ أَحْسَنُ ديناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهيمَ حَنيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهيمَ خَليلاً (١٢٥)}، أي ومن أحسن تديّنا والتزامًا قلبيًّا ممّن أسلم وجهه لله وهو محسن، وفي [٢] قوله تعالى {إِلاَّ الَّذينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنينَ أَجْراً عَظيماً (١٤٦)} أي أخلصوا التزامهم وبناءهم القلبيّ لله وحده، ومنه أيضًا [٣] قوله سبحانه {وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمين (١٩٣)}.
وجاء استعمال المصدر هذا في موارِدَ أخرى أريد به فيها: الأمر الذي يُلتزمُ به ويُتديّن به. ولهذا نظائر في استعمال المصادر في لغة العرب، كاستعمال الأكل تارة في نفس العملية، وتارة في المأكول فيها. وقد جاء ذلك في [١] قوله سبحانه وتعالى {وَ وَصَّى بِها إِبْراهيمُ بَنيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)} فالله هو الذي اختار وعين لكم ما تتدينون به، و[٢] قوله سبحانه {أَفَغَيْرَ دينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)} ولعلّ منه [٣] قوله سبحانه {وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرينَ (٨٥)}، و[٤] قوله سبحانه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
الوقفة الثانية مع قوله سبحانه في الآية الكريمة {لا إكراه…}. ال"لا" هنا هي ما يعبر عنه أهل اللغة ب"لا النافية للجنس"، ولذلك لم نقرأ الآية بتنوين كلمة الإكراه مع أنها نكرة، فلم نقل "لا إكراهٌ" بل قرأناها بفتحة على "إكراه"، أي {لا إكراهَ…}، وهذا ما ميّز لنا نوع ال"لا" المستعملة في الآية. ومفاد هذه ال"لا" -أي: النافية للجنس- نفي تحقق أي فرد من أفراد هذا الجنس، فحينما نقول "لا رجلَ في الدّار" فنحن نريد بذلك نفي وجود أيّ فرد من أفراد طبيعة الرجل في الدّار نهائيًا.
فالغرض من "لا" في الآية الكريمة إفادة نفي كل أجناس الإكراه.
وهذا النفي عيّنت الآية ظرفه بقوله سبحانه {… في الدّين…}، أي أن جنس الإكراه قد تمّ نفيُهُ مطلقًا في هذا الظرف، ولكنّها لم تعيّن الأمر الذي وقع عليه الإكراه، والذي تتعدّى إليه عادة كلمة الإكراه ب"على"، فيقال مثلًا: "أكرهه على الصيام في يوم الإثنين"، فتعدّت إلى الفعل الذي صدر بسبب الإكراه ب"على"، وتم بيان الظرف - وهو "يوم الإثنين" - ب "في".
ولنا هنا تصويرات ثلاث في فهم الآية الكريمة نحتاج لتقييمها:
- أن الآية تريد أن تنفي وجود أي فرد من أفراد طبيعة الإكراه في هذه الشريعة التي نتديّن بها إلى الله سبحانه.
وهذا ممّا لا يمكن الأخذ به أبدًا، لوضوح وجود مجموعة من التشريعات الإكراهيّة في شريعة الله سبحانه، منها مثلا: حبس المستدين في بعض الحالات حتى يُرجِعَ الدّين، وما في قوله سبحانه {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)}، ومنها أيضًا الإكراه على الخروج من الأرض في موارد النفي التي منها {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣)}، وغير ذلك الكثير.
ولذلك نقول: إن الدّين في الآية الكريمة هو الدّين بمعنى عملية الإلتزام القلبي، لا نفس التشريعات والأمور التي نتديّن بها. وحينها تكون الآيّة قد صوّرت هذه العمليّة تصويرًا مجازيّا، صوّرتها وكأنّها ظرف يصلح لوقوع الإكراه فيه. فهل تريد الآية أن:
- تنفي السماح والإذن بوجود أي فرد من أفراد الإكراه في عمليّة التديّن القلبي ؟ وأنّها لا تجيز ذلك؟ ويمكن لنا التعبير عن هذا الفهم بطريقة أخرى: الآية تنفي الوجود التشريعي للإكراه في عمليّة التديّن، وكأنها تقول: الإكراه في هذا الظرف وهو ظرف التديّن القلبي هو أمر لم نشرّعه فلا وجود له في عالم التشريعات الإلهيّة.
- تنفي وجود أي فرد واقعي للإكراه في هذا الظرف منبّهةً بذلك لأمرٍ واضح، وهو أن التديّن القلبي شأن اختياريّ ولين أمرًا جبريًّا، فأنت المسؤول عن اختيارك فيه.
وليس لنا خيارٌ هنا إلّا أن نقول أن الذي يُفهم من الآية الشّريفة هو المعنى الثالث، لا الثاني، [١] لوضوح أن المصير إلى المعنى الثاني يحتاج لقرينة تصرفه إليه، لأن الآية لا إشارة فيها لإطار التشريع والوجود التشريعي، ولم تقول "لا إذن بالإكراه" بل قالت {لا إكراه…}.
[٢] مضافًا إلى ما مرّ من وضوح كون التديّن القلبي فعلٌ اختياريّ بحت. ولمّا لم يكن إمرًا اختياريّا لم يكن من المناسب التعرّض لنفي تكليفنا به من قبل الخالق الحكيم سبحانه. وقد يضاف لذلك [٣] أنّ الآية فصلت بين الجملتين، جملة: {لا إكراه في الدّين} وجملة:{قد تبيّن الرشد من الغيّ}، حيث أن من أوضح موارد الفصل بيان العلّة والسبب الكامن خلف الجملة الأولى، كقوله سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)} حيث كان الختم هو سبب استواء الإنذار وعدمه عندهم.
فتصبح حينها آيتنا كقوله سبحانه {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (١٠)}، أي أنّها تنبيه وإشارة لتحمّل مسؤوليّة شأن اختيار الطريق الصحيح والمعتقد الصحيح بعد أن كان الحقّ قد تبيّن من الباطل.
والحمد لله وحده
Comments
Post a Comment