منهج مقترح لبحث الخلاف المذهبي - الجزء الثاني
بقلم إبراهيم أحمد بن سليم
بعد فهم كل مذهب كما يفهمه أهله لا كما
يعرضه خصومه (كما في المقال الأول) يتضح أن بين المذهبين مشتركات وخلافات، وفي المقال
القادم بإذن الله سأبدأ في بيان كيفية بحث الخلافات، أما في هذا المقال فسأوضح كيفية
تحديد الأرضية المشتركة التي يتكئ عليها البحث في تلك الخلافات.
تتكون الأرضية الصالحة للبحث من أمرين:
الأمر
الأول : المشتركات :
وهي
ما تشترك فيه المذاهب المراد تحقيق الحق بينها، ومن المشتركات نصوص، كالقرآن الأحاديث
التي تصححها المذاهب المختلفة، ومنها قواعد علمية يعتمد عليها البحث كالقواعد
المنطقية واللغوية والأصولية والحديثية، ومنها عقائد ومعارف وأحداث تاريخية، فهذه عند
الاتفاق عليها يؤخذ بها لنتكون حَكَماً يفصل بين الخلافات.
ومن
الطبيعي عند تحقيق الحق بين مذهبين أن تُأخذ المشتركات بالتسليم، فمن العبث النقاش
في أمر اتفق عليه طرفا النقاش، فنبوة النبي -صلى الله عليه وآله- -مثلاً- متفقٌ عليها
ولا يُناقش ثبوتها في النقاش المذهبي، والنقاش فيها في هذا المقام يُعد عبثاً عند العقلاء،
نعم قد تناقش النبوة مع النصارى، وهذا خارج عن فرض تحقيق الخلاف المذهبي.
وقد وقع الكثير من الباحثين بهكذا مغالطات؛ فتجد
أحدهم يقول "فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان علي وعدالته وأنه من أهل
الجنة فضلاً عن إمامته إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان، وإلا فمتى أراد إثبات
ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة"، وهذا كلامُ من لا يفقه؛ فإن الإمامي إذا
كان يستدل لنفسه كفته مروياته، وإذا كان في نقاش مع سني لم يحتج أن يثبت إيمان
وعدالة أمير المؤمنين -عليه السلام- لكونها من المشتركات بين الفريقين، أما إذا
كان النقاش مع طرف لا يؤمن بإيمانه -عليه السلام- فعادةً ما يكون الخلاف الرئيسي
بين الإمامية وذلك الطرف مسألة أخرى غير هذه، ويكون حسم هذه المسألة مبنياً على
مقدمات مختلف فيها، فيجب حسمها أولاً، وسيأتي بيان ذلك في المقال القادم بإذن الله.
ويكفي للحكم على أمرٍ بأنه مشترك الإتيان
بإقرار بعض أهل الاختصاص من كل طرف مع فقدان المعارض لهم، بمعنى أنني إن أردت أن أثبت
أن حديث الغدير مشترك كفاني تصحيح الألباني والعلامة الحلي ما لم أجد بعد الفحص
تضعيفا أو طعنا في الخبر، فحينها يتوجب علي الرجوع لمنهج ذلك الطرف في تصحيح وتضعيف
الحديث لمعرفة ما إذا كان الحق مع المصحح أم المضعف[1].
وقد اكتفيت بعالم واحد من كل طرف لأنه من
غير الطبيعي أن أطلب تصحيح كل عالم سني وكل عالم إمامي لحديث قبل الأخذ به، ولا معنى
لتحديد عدد معين للمصححين كأن أشترط وجود ثلاثة علماء مثلاً من كل طرف، كما لا يكفي
تصحيح عالم ولا عشرة مع وجود مضعف إلا إذا ثبت خطأ المضعف.
ومن
الأخطاء الشائعة التي ابتلي بها بعض الباحثين أنه يجد حديثاً مروياً في مصادر الطرفين
فيعتبره مشتركاً، فيجد الباحث الإمامي مثلاً حديثاً في الخصال للصدوق وفي مسند أحمد
فيعتبره مشتركاً رغم أن علماء أهل السنة يضعفونه، وتجد السني مثلاً يأخذ قولاً لعالم
من علماء الإمامية يوافق المذهب السني ويعتبره مشتركاً رغم مخالفة أغلب علماء الإمامية
لهذا القول.
الأمر الثاني : الإلزامات :
المكون الثاني من مكونات أرضية البحث هو
الإلزامات؛ وهو ببساطة أن يُلزَم كل طرفٍ بما يلتزم من قواعد ونصوص وعقائد، فيلزم الإماميُ
السنيَ بما هو صحيح عند أهل السنة سواءً صح المُلزَم به عند الإمامية أم لم يصح، والعكس
بالعكس.
وبعبارة أخرى، إن أتى السني مثلاً برواية
من الكافي فيها نص من الإمام الصادق عليه السلام على إمامة غير الإمام الكاظم، وأثبت
صحتها بناء على علم الحديث عند الإمامية، فلا معنى أن يردها الإمامي المحتَج عليه بحجة
أنها لا تصح على مبنى أهل السنة، (هذا مجرد مثال ولم أر هكذا رواية واقعاً)، كما أنه
من غير المعقول أن يأتي الإمامي برواية من صحيح مسلم فيردها السني بحجة أنكم أيها الإمامية
تطعنون بمسلم ورواياته، فهذا إلزام له بما يلتزم به، وقد وجدت الكثير من هذه المغالطات
في البحوث والأطروحات؛ فتجد أحدهم يرد على الاحتجاج بحديث صحيح عنده بمغالطات مثل
"أتحداك أن تأتي بسند صحيح لهذا الحديث عندك!" ، أو "لماذا أخذت بهذا
الحديث من صحيح مسلم وتركت الحديث الآخر من نفس الكتاب والذي يبطل قولك؟".
إن
الفرق بين الإلزام والإلتزام شاسع مهم غفل عنه الكثير وتغافل عنه الكثير.
تنبيه:
١- إذا أراد الباحث أن يترك قاعدة أو يضع أخرى
- سواء كانت من المشتركات أم لا - يجب عليه إثبات ما يريد أولاً ثم يعتمد عليه، فمثلاً
عندما أراد الشيخ المظفر (من علماء الإمامية) في كتابه دلائل الصدق أن يتوسع في الأخذ
بفضائل أهل البيت عليهم السلام من كتب المذهب السني دون الالتفات إلى قواعد علم الحديث
السني أخذ يشرح أسبابه ويأتي بشواهد على بطلان هذه القواعد قبل الشروع في الكتاب، ولست
هنا بصدد تصحيح هذا الموقف أو تخطئته، إنما أردت أن أنبه على وجوب إثبات وجه التغيير
في أساسيات البحث قبل اعتماد هذا التغيير، بَيْدَ أنني لا أحبذ أي تغيير في بداية البحث،
إنما التغيير الأمثل يكون بعد التمرّس.
٢- لم يكن الغرض من المقال تحديد قواعد للجدل
والمناظرة، وإنما صغت الكلام والأمثلة بهذه الطريقة ليسهل فهمها، وهي رغم كونها صالحة
للنقاش والمناظرة = صالحة أيضا للبحث الفردي، فالمعبَّر عنه هنا كأنه "سني يُحتج
عليه" هو رمز للفكرة السنية المدروسة، والمعبَّر عنه كأنه "إمامي يُحتج عليه"
هو الفكرة الإمامية المدروسة.
وبهذا نكون قد فهمنا كل مذهب كما هو، وأسسنا
قاعدة وأدوات للبحث، وفي المقال القادم سأتطرق إن شاء الله لبيان كيفية التعامل مع
الخلافات، والحمد لله رب العالمين.
[1] كما فعل مثلاً المحقق نويد أرجمند في كتابيه
السكينة في صحة حديث السفينة، والسكينة في صحة حديث المدينة، فإنه لم يكتفِ بسرد أسانيد
وتصحيحات ومصادر الحديث، بل أتى بالأسانيد وطبق عليها القواعد وأثبت صحتها ورد بشكل
علمي على من ضعفها.
Comments
Post a Comment