حول مقولة: إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك...تقييم وتقويم


"إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ولا طمعا في ثوابك، ولكن وجدتك أهل للعبادة فعبدتك"


هذه المقولة منسوبة لأمير المؤمنين عليه السلام لكن الصحيح أنها لرابعة العدوية -وهي امرأة عابدة مشهورة في عالم التصوف الإسلامي-، ولا تثبت نسبتها لأمير المؤمنين ع؛ وذلك لشهرتها عن رابعة شهرة كبيرة وتناسبها مع ما جاء عن رابعة من الكلمات، وفي مقابل ذلك لا تناسب أدعية أمير المؤمنين ع كما لا تناسب مرجعية أمير المؤمنين ع من الكتاب والسنة.

فهذه المقولة تخالف ما ورد في القرآن الكريم من أن أهل البيت ع يخافون عقاب الله في قوله تعالى: "إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا"

وقول الله تعالى للنبي ص في القرآن: "قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ"، بل حتى الأنبياء كانوا يخافون عقاب الله تعالى، فالقرآن يقول عن النبي زكريا وأهل بيته مادحا لهم: "إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ"

فالدعوة للعلاقة مع الله تعالى دون خوف دعوة تخالف القرآن الكريم وتخالف طبيعة البشر التي تقتضي الخوف من العقاب، فطبيعة الإنسان تتناوبها حالات متعددة تشتمل على الخوف تارة والطمع تارة والشكر تارة، وتنتابها حالة الكسل أحيانا والنشاط حالة أخرى، فلا ينبغي للإنسان أن ينزعج من ذلك، ولا يظن أن هناك حالة مثالية ينبغي عليه بلوغها، بل الصحيح أن العلاقة مع الله علاقة متنوعة تختلف باختلاف الظروف والمواقف التي تواجه الإنسان.

نعم، ورد في الخبر أن عبادة الله حبا له أعلى درجة من عبادته خوفا وطمعا، فروى الكليني بسند صحيح عن أبي عبد الله ع "العباد ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفا فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأُجَراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حبا له، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة"

لكن ذلك لا يعني أن يزيل الإنسان من قلبه حالة الخوف من الله تماما، حيث يظهر من القرآن الكريم أن أول خطوة للتسليم لله هي التقوى، واتقّاء الله لا معنى له من دون الخوف من عقابه، لذلك يجد المتأمّل في الآيات المكية التي نزلت في بداية الدعوة أنها ركّزت بشكل ملفت على ذكر النار وتحذير الكافرين من العذاب، فاللازم التأمّل كثيرا في تلك الآيات واستحضار ذلك في أنفسنا لما في ذلك من عظيم الأثر في صلاح النفس وهدايتها.

وقد جاءتنا بعض المسائل المرتبطة بصحة هذه النسبة لأمير المؤمنين (ع) ، فينبغي إيضاح بعض الأمور:


الأمر الأول: لم يكن حديثنا السابق مرتبطا بتحقيق صحة هذه المقولة، وإنما أشرنا إلى ذلك إشارة عابرة، وقد كان الغرض من الحديث هو لفت النظر إلى غلط مشهور بين جماعة الناس، وهو توهم مطلوبية تجاوز داعي الخوف والرجاء في النفس، وأن المطلوب من المؤمن أن يصل إلى مرحلة لا يكون فيها الخوف والرجاء محركين وداعيين للطاعة، فنبّهنا على أن هذا التصور غير صحيح ومخالف للكتاب والسنة، وهذا فضلا عن مخالفته لفطرة البشر

الأمر الثاني: أقدم من نسب هذا النص إلى أمير المؤمنين ع فيما نعلم هو ابن ميثم البحراني (القرن السابع) في كتابه "شرح المائة كلمة" ص٢١٩، ولم يذكر في نقله مصدرا ولا سندا، ثم نقله العلامة الحلي في "الألفين" ص٢٠١ و"نهج الحق" ص٢٤٨ من دون من دون سند ولا مصدر، ومن ثم وجدنا بعض العلماء ممن تأخر ينقله من دون سند ولا مصدر

والملاحظ أن هذا التعبير مشهور عن الصوفية الشهيرة رابعة العدوية (ت١٨٥) (لاحظ إحياء علوم الدين للغزالي ج٤ ص٣١٠) كما أن من الملاحظ أن المعنى المشتمل عليه هذا التعبير حي في أدبيات الصوفية المتقدمين (وفيهم المعاصر للأئمة ع) (لاحظ كتاب "ما عبدتك خوفا من نارك" لعبد الفتاح بن صالح قديش الشافعي المعاصر ص٥٦-٨٨)

والملاحظ أيضا أن ابن ميثم من المتأخرين، وأن ما كتبه في هذه النقطة غير مبني على نقل الأخبار من الكتب والمصادر

فإذا لوحظ هذا كله حصل الشك القوي والريب الشديد في ثبوت هذا النص عن أمير المؤمنين ع، خصوصا أنه لا يتناسب مع عامة نصوص أهل البيت ع المبيّنة للعلاقة مع الله تعالى

ولكن هذا كله لا يعني القطع بكذب هذه العبارة والجزم بعدم نسبتها إلى الأمير ع؛ فإن من الممكن توجيهها بحمل نفي عبادته تعالى طمعا في الجنة وخوفا من النار على المبالغة لغلبة عبادته -ع- لله لأنه أهل للعبادة

الأمر الثالث: أن موضع الإشكال إنما هو في نفي عبادة الله خوفا لا نفي الخوف، فما ذكره البعض من أن الرواية لا تنفي الخوف، وإنما تنفي العبادة خوفا = لا يغير من محل الإشكال شيئا

الأمر الرابع: عند التأمل في هذه الفكرة الصوفية نجد أن لها انعكاسا على بعض المنتسبين لمدرسة أهل البيت ع

ففي بعض الكتب نجد النص التالي "كان سماحة الشيخ يرى باطن الناس ببصيرته فكان يصور الحالة الباطنية لأهل الدنيا وأهل الآخرة وأهل الله على النحو التالي:
من يطلب الدنيا عن طريق الحرام باطنه كلب، ومن يريد الآخرة فقط فهو خثنى، ومن يريد الله فهو الرجل الحقيقي".

وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى

Comments

Popular posts from this blog

ما معنى أن الله خلق الأشياء بالمشيئة؟

شبهة لعن الإمام لزرارة في الروايات

ما هو التفويض الباطل؟