وقفة مع آيات الاستواء على العرش

 




بقلم حسين البحراني 


يُعدّ مذهب الإمامية من المذاهب الإسلامية التي تنزّه الله سبحانه عن أن يكون جسمًا -والمراد بالجسم في كلامنا هو ما له ثلاثة أبعاد-، فالجسم هو الطويل العريض العميق- فيدّعي الإمامية أنّ الله سبحانه ليس بجسم؛ والوجه في ذلك: أن الجسمية بالمعنى السابق لا تنفك عن الحاجة إلى الغير، فكل جسم يحتاج إلى غيره، والله سبحانه غني عن غيره إذ لا سبيل للحاجة إليه، فلا يمكن أن يكون الله تعالى جسما (ولهذا الدليل تفصيل ليس هذا موضعَ ذكره).

وبتبع ذلك يُنفى عن الله تعالى ما يُناسب الجسمية من العلو الحسي والكون في السماء حسًا والارتفاع حسًا والنزول حسًا ونحو ذلك من شؤون الجسمية التي لا تنفك عنها.

وقد استشكل بعض المخالفين على الإمامية وغيرهم من أهل التنزيه ببعض النصوص والآيات متهما إياهم بتعطيل صفات الله التي أثبتها لنفسه في القرآن  كصفة الاستواء على العرش التي جاءت في القرآن في أكثر من موضع، قال تعالى: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ".

فادّعى المخالفون أنّ الاستواء في الآية هو العلو والاستقرار على العرش بالمعنى الحقيقي!! 

واحتجّوا على ذلك بأنّ فعل الاستواء في الآية تعدّى ب"على"، والاستواء المتعدي ب"على" يكون بمعنى العلو والاستقرار قال تعالى: "فَإِذَا ٱسۡتَوَیۡتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلۡفُلۡكِ"، وقال "لِتَسۡتَوُۥا۟ عَلَىٰ ظُهُورِهِۦ ثُمَّ تَذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ رَبِّكُمۡ إِذَا ٱسۡتَوَیۡتُمۡ عَلَیۡهِ"، وعليه فينبغي حمل آيات الاستواء على العرش على معنى العلو والاستقرار لا على معنى آخر.

والذي نراه أن ما ذكروه اشتباهٌ عظيمٌ في فهم الآية الشريفة، وذلك بعد ملاحظة التالي:

أ- السياق:

إن الظاهر من سياق الآيات الدالة على الاستواء على العرش أن الاستواء على العرش صفة كمال وعظمة، ففي سورة طه مثلًا يقول الله -تعالى-: "تَنزِیلࣰا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ ٱلۡعُلَى *  ٱلرَّحۡمَـٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ *  لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ *  وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ یَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى *  ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ"، فلا يخفى أن هذا سياق تعظيم وتجليل وحمد وتمدّح.

ومن ثَمّ نقول: أي مدح وأي كمال وأي حمد وأي تعظيم في مجرد الاستقرار على العرش والثبات عليه!!!

أفي الجلوس على عرش والاستقرار عليه كمال؟! في أي عقل كان هذا وفي أي عرف؟! ولو سُلّم مثلُ هذا لكان لله كمالٌ موقوفٌ على أن يخلق عرشًا يستقر عليه!! ولعمري لو كان في شريعة العقل ولب الشرع مثل هذا لبَئسِ العقل واندحض الشرع!!! لكن هيهات هيهات!

ب- تتبع آيات الاستواء في القرآن:

جاء الاستواء على العرش في سبع آيات من كتاب الله، جاء بعد خمسة منها ما يدل على إعمال السلطنة والتدبير.

فجاء في سورة الأعراف: "ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَ یَطۡلُبُهُۥ حَثِیثࣰا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَ ٰتِۭ بِأَمۡرِهِۦۤۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"

وفي سورة يونس: "ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ" وفي سورة الرعد "ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ یَجۡرِی لِأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ" وفي سورة السجدة "ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِیࣲّ وَلَا شَفِیعٍۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ"

وفي سورة الحديد: "ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یَعۡلَمُ مَا یَلِجُ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا یَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا یَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَمَا یَعۡرُجُ فِیهَاۖ وَهُوَ مَعَكُمۡ أَیۡنَ مَا كُنتُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ *  لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ *  یُولِجُ ٱلَّیۡلَ فِی ٱلنَّهَارِ وَیُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِی ٱلَّیۡلِۚ".

ج- ملاحظة أساليب العرب البلاغية:

إن العرب كثيرا ما تُعبّر عن مقاصدها بالكنايات، فتقول العرب لمن يَنْفُذُ أمرُه وقرارُه: فلان بيده تدبير أمر الأمة، مع العلم بأنه لا شيء في يده فعلًا، بل قد يكون فلان أقطعَ اليد، ومع ذلك تستسيغ العرب هذا الإطلاق.

والوجه في ذلك أن كون شيء بيد شخص مستلزمٌ لكونه تحت تصرّفه، فاستحسنت العرب ذكر الملزوم (كون الشيء في اليد) وأرادت اللازم (كون الشيء تحت السيطرة والسلطان)، وهذا من بديع الأساليب ومحاسن البيان، وهو ما يُسمى عندهم بالكناية.

د- تطبيق الأساليب على آيات الاستواء:

إن استواء الملوك على عروشهم يقتضي -أي يستلزم- في العرف العربي إعمالَهم لسلطنتهم وتدبيرهم وإقامة شؤون مملكتهم، فالملك يستوي على عرشه بعد أن يُقيم مملكتَه، وباستوائه على عرشه تصدر أوامره وقراراته لإقامة شؤون العباد والبلاد، ومن هنا كان الاستواء على العرش مستلزمًا للتدبير وإعمال الملك والسلطنة.

فإذا لُوحظت هذه الأمور الأربعة لم يبق مجالٌ للتردد في أن الاستواء على العرش في كتاب الله تعالى كنايةٌ عن إعمال السلطنة والملك وتحقيق التقدير بالتدبير، وليس في ذلك أي دلالةٍ على الاستقرار إلا عند من قصّر في التحقق والتدبّر، كيف؟! وشريعة العقل حاكمةٌ ببطلانه، وقضاء العرف ناصٌ على ضعفه وتهالكه، كما مرّ عليك عن قريب، فتأمل وتدبر وتبصر!!!


Comments

Popular posts from this blog

ما معنى أن الله خلق الأشياء بالمشيئة؟

شبهة لعن الإمام لزرارة في الروايات

ما هو التفويض الباطل؟