التوحيد والتثليث عند النصارى- رؤية نقدية فاحصة
بقلم حسن فلاح
يعتقد النصارى أن الإله واحد لكن في ثلاثة أقانيم، وكلمة أقنوم تعني
ما يقوم عليه الجوهر أو ما يقوم فيه الجوهر أو الطبيعة، والأقنوم كائن حقيقي له
شخصيته الخاصة لكنه واحد في الجوهر والطبيعة والإرادة مع الأقانيم الأخرى بغير
انفصال، وهم الآب والابن والروح القدس؛ ويوضح هذا "القديس كيرلس
الكبير"(377-444 م): "نحن نؤمن بإله واحد ضابط الكل، الذي لا
ابتداء ولا انتهاء له، آب واحد، وابن واحد، والروح القدس منبثق من الآب وحده،
وهؤلاء هم جوهر واحد، ورب واحد، وسلطان واحد وإرادة واحدة".
وهم يصرّون على كونهم قائلين بالتوحيد وإن اعتقدوا بوجود ثلاثة أقانيم، وقد تكون
هذه العقيدة لأول وهلة متناقضة، لكنهم يذكرون بعض الأمثلة التي يحاولون من خلالها
جعل الفكرة معقولة، ومن أفضل الأمثلة التي وقفنا عليها مثال الإنسان المكوّن من
الروح والجسد، والذي مع هذا هو إنسان واحد، فلا تناقض!
لكن لا شك أن الإله والذي نسميه ب"الله" عز وجل هو الذات المتصفة بصفات
الكمال كالعلم والقدرة والغنى؛ والعبرة في التوحيد هو الاعتقاد بأن هذه الذات ذات
واحدة لا نظير لها، ومن يقول بوجود ثلاثة ذوات بحيث تكون كل ذات غير الأخرى، وكل
ذات من هذه الذوات تحمل صفات الكمال= هو في الحقيقة مخالف للتوحيد.
وعلى ما في عقيدتهم من اضطراب وعدم وضوح، إلا أن هناك احتمالين لا ثالث لهما بحكم
العقل:
1- أن الذات التي تحمل صفات الكمال= لها ثلاثة أفراد في الخارج.
وذلك التزام بثلاثة آلهة، ولا يمكن أن تكون هذه الأفراد إلها واحدا إلا باللّحاظ
والاعتبار = إما باعتبار أن هذه الأفراد تجمعها حقيقة واحدة، كما تجمع الإنسانية
أفراد البشر، أو باعتبار أنها ذوات مجتمعة أو متقاربة في المكان والزمان، كما يتم
اعتبار اجتماع ثلاثة أضلاع مثلث واحد؛ وعلى كل حال فهو خروج عن التوحيد؛ والتصوّر
الأخير هو ما يُفهم من بعض الأمثلة التي يطرحونها ( لاحظ مثال المثلث والكلب صاحب
الرؤوس الثلاثة في المقاطع المرفقة)
2- أن الذات التي تحمل صفات الكمال = لها فرد واحد في الخارج.
ويلزم من ذلك نفي وجود أقانيم ثلاثة؛ وذلك لأن الأقنوم عندهم عبارة عن شخص يحمل
صفات الكمال؛ فإن قالوا بأن الذات التي تحمل صفات الكمال متمثلة في فرد واحد فقط،
فلا يبقى وجه للقول بوجود ثلاثة أشخاص حاملة لصفات الكمال!
وأما مثال الإنسان المكوّن من الروح والجسد فيجب بيان المراد من الإنسان؛ فإن كان
المراد من الإنسان= الكيان الجامع للروح والجسد، فالإنسانية هنا تكون مجرّد لحاظ
واعتبار، بمعنى أنه جرت عادتنا على اعتبار أن الإنسان هو روح في جسد، وإلا في
الواقع فإن هناك شيئان في الخارج وهما الروح والجسد؛ وبناء على هذا التصوير يلزمهم
وجود ثلاثة آلهة وإن تم اعتبارها إلها واحدا لأي سبب كان.
وإن كان المراد من الإنسان= الشخصية والهوية التي يتمتع بها كل فرد ويتميز بها عن
الآخر، فالروح هي الهوية، وعلى هذا يكون الإنسان في الخارج واحدا فقط، وغاية ما في
الأمر أنه حالّ في الجسد؛ وهذا التصوير لا ينسجم مع القول بوجود ثلاثة أقانيم
تجمعهم صفات كمالية واحدة وجوهر واحد؛ لأنه لا تجمع الروح والجسد صفاتٌ واحدة ولا
جوهرٌ واحد.
على أن بعضهم اعترف بعدم وجود أمثلة واقعية لفكرة الثالوث، وأن جميع ما يُطرح ما
هو إلا لأجل تقريب الفكرة، وذهبوا إلى أن العقل البشري قاصر عن استيعاب طبيعة
الإله.
لكن نقول لا شكّ أن هناك فرقا بين القول بعجز العقل عن إدراك حقيقة شيء ما، والقول
بأن العقل يُدرك استحالة وجود ذاك الشيء؛ فمثلا لا مانع من أن نكون عاجزين عن
إدراك عدد أجنحة الملائكة أو شكلها أو لونها، لكن لا يمكن على أي حال أن تكون هناك
ملائكة تحمل اللون الأسود والأبيض في نفس الوقت، أو أن تكون هناك ملائكة عددها
ثلاثة وهي واحدة في نفس الوقت، فمن يدّعي جواز ذلك فقد أبطل حجية العقل، ومن ثَمّ
أبطل حجية أدلة وجود الخالق، ولا يكون قول النصراني من وجود إله واحد في ثلاثة
بأولى من قول الملحد بحدوث الكون صدفة.
Comments
Post a Comment