معنى روايات الأمر بين الأمرين
بقلم حسن فلاح
بسم الله الرحمن الرحيم
من أكثر المسائل التي كانت محلّ جدل بين الفرق الإسلامية هي المسائل المتعلقة
بالجبر والاختيار والقضاء والقدر؛ نظرا لكونها من المسائل التي من شأنها أن تشغل
العقل الإنساني وتؤرقه لأنها مرتبطة بالعدل الإلهي من جهة وبحرية اختيار الإنسان
من جهة أخرى، بالإضافة إلى كونها من المسائل الحية في الكتاب والسنة، فنجد الكثير
من الآيات التي تشير إلى تعلّق إرادة الله تعالى بكل شيء وأنه خالق كل شيء وغيرها
من تلك المعاني، فانقسم المسلمون على إثر هذه المسألة إلى عدة فرق بين مجبّرة
ومفوّضة -على خلاف في التفاصيل والتصويرات-، وكثيرا ما يُجعل الخلاف دائرا بين
الأشاعرة والمعتزلة.
وبعيدًا عن الحديث حول جذور المسألة تاريخيًا إلا أن الشبهة -بحسب رأي بعض
الباحثين- نشأت من التوهّم بوجود ملازمة بين القول بتعلق إرادة الله والقضاء
والقدر بأفعال العباد وبين الجبر، وهذا التوهّم جعلهم يظنّون أنهم بين أمرين: إما
القول بتعلّق إرادة الله تعالى بجميع الأفعال وبالتالي ضرورة وقوعها وانتفاء حرية
اختيار العبد، وإما القول بعدم تعلّق إرادة الله تعالى بالأفعال وبالتالي عدم
ضرورة وقوعها فتتم المحافظة على حرية اختيار العبد، ولكن يترتب على ذلك تضييق
سلطان الله وتصرفه في خلقه!
وفي ظلّ هذا الانقسام بين مختلف المذاهب يومذاك حول هذه المسألة العقائدية الهامّة
نجد محاولة طرح اتجاه ثالث يعتبر نفسه القول الوسط في المسألة وهو ماعُرف في كلمات
أهل البيت (ع) ب"الأمر بين الأمرين"، وهو ما تبنته مدرسة الإمامية فخرجت من مشكلة الجبر وحافظت على حرية اختيار المكلّفين، وفي الوقت ذاته
لم ترفع اليد عن القول بتعلّق إرادة الله في كل شيء بما في ذلك أفعال العباد.
والمهم في المقام هو بيان تفصيل هذا القول وبيان كيفية رفع هذه الملازمة -أعني
الملازمة بين القول بتعلّق إرادة الله بالأفعال والجبر-، والذي نرجو بيانه في هذه
الكلمات المختصرة هو التفسير الصحيح للأمر بين الأمرين مع محاولة إبراز الشواهد
عليه من نفس النصوص مع المحافظة على ما يحكم العقل في هذه المسألة. (لمزيد من
التفصيل راجع دروس اعتقادات الصدوق ٤٢-٧١)
إن الرويات الواردة عن أهل البيت (ع) تنفي الجبر والتفويض وتثبت أمرا بينهما؛ ونظن
أن معنى الجبر واضح لا يحتاج لمزيد بيان، فالجبر لغة: هو الإكراه على خلاف المراد
وخلاف الرغبة، وأما بحسب ما يُفهم من كلمات أصحابنا من المتكلمين فهو: كل ما يوجِب
لغوية التكليف ولغوية استحقاق الثواب والعقاب، فيلزم منه بحكم العقل كون الثواب
والعقاب سفها أو ظلما؛ ومعنى الجبر في ذلك واضح في أخبار أهل البيت (ع) لا حاجة
لاستعراضه، ولنكتف بالخبر الصحيح الذي رواه الكليني عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي
جعفر وأبي عبد الله –عليهما السلام-، قالا: إن الله أرحمُ بخلقه من أن يجبر خلقه
على الذنوب ثم يعذبهم عليها..."(1)
وأما التفويض لغة فهو إيكال الأمر إلى الغير ورده إليه وتسليمه له، بينما
معناه اصطلاحا ليس بذلك الوضوح كما لا يخفى؛ فلا يوجد معنى ارتكازي للتفويض
المتضمّن للمحذور الذي لا يمكن الالتزام به، وقد كان ذلك سببا لوقوع الاختلاف في
تقرير معنى الأمر بين الأمرين؛ والذي يهمّنا استعراض الأخبار التي قد يُتحصّل منها
المعنى المراد للتفويض؛ وهي:
1- عن أبي جعفر وأبي عبد الله –عليهما السلام-، قالا: إن الله أرحمُ بخلقه من أن
يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون، قال:
فسئلا –عليهما السلام-: هل بين الجبر والقَدَرِ منزلةٌ ثالثة؟ قالا: نعم، أوسع مما
بين السماء والأرض"(2)
2- عن أبي عبد الله -عليه السلام-، قال: الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون،
والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد"(3)
3- عن أبي عبد الله –ع-، قال: إن الناس في القَدَر على ثلاثة أوجه: رجلٌ يزعم أن
الله -عز وجل- أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظَلَّمَ الله في حكمه، فهو كافر،
ورجل يزعم أن الأمر مفوّض إليهم، فهذا قد أوهن الله في سلطانه فهو كافر، ورجل يزعم
أن الله كلّف العباد ما يطيقون، ولم يكلفهم ما لا يطيقون، وإذا أحسن حمد الله،
وإذا أساء استغفر الله، فهذا مسلم بالغ "(4)
4- عن حمزة بن حمران قال: قلت له: إنا نقول إن الله لم يكلف العباد إلا ما آتاهم،
وكل شيء لا يطيقونه فهو عنهم موضوع، ولا يكون إلا ما شاء الله وقضى وقدّر وأراد،
فقال: والله إن هذا لديني ودين آبائي "(5)
5- عن إسماعيل بن جابر، قال: كان في مسجد المدينة رجل يتكلم في القَدَر والناس
مجتمعون، قال: فقلت: يا هذا، أسألك؟ قال: سل، قلت: يكون في ملك الله -تبارك
وتعالى- ما لا يريد؟ قال: فأطرق طويلا، ثم رفع رأسه إليّ، فقال: يا هذا، لئن قلتُ:
إنه يكون في ملكه ما لا يريد إنه لمقهور! ولئن قلت: لا يكون في ملكه إلا ما يريد
أقررت لك بالمعاصي! قال: فقلت لأبي عبد الله –ع-: سألت هذا القَدَري، فكان من
جوابه كذا وكذا، فقال: لنفسه نظر، أما لو قال غير ما قال لهلك"(6)
6-عن أبيه عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن الرضا –ع-، قال: ذُكِر عنده
الجبر والتفويض، فقال: أَلَا أعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه
أحدا إلا كسرتموه؟ قلنا: إن رأيت ذلك، فقال: إن الله -عز وجل- لم يُطَع بإكراه،
ولم يعصَ بغَلَبَة، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملَّكَهم والقادر على
ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادا، ولا منها مانعا،
وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحولَ بينهم وبين ذلك فَعَل، وإن لم يَحُل وفعلوه
فليس هو الذي أدخلهم فيه..."(7)
7- عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله –عليه السلام-، قال: إن الله عز وجل
خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه، وأَمَرَهم ونَهاهُم، فما أَمَرهم به من شيء فقد
جعل لهم السبيل إلى الأخذ به وما نَهاهُم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه،
ولا يكونوا آخذين ولا تاركين إلا بإذن الله"(8)
8- قال أبو الحسن –عليه السلام- ليونس مولى علي بن يقطين: يا يونس لا تتكلم
بالقدر، قال: إني لا أتكلم بالقدر، ولكنّي ...، ثم قال: قال الله: يا ابن آدم،
بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي،
وجعلتك سميعا بصيرا قويا، فما أصابك من حسنة فمنّي، وما أصابك من سيئة فمن نفسك،
وذلك لأني لا أُسأل عما أفعل وهم يُسألون، ثم قال: قد نظمت لك كل شيء تريده"(9)
والمتحصّل من تلك الأخبار أمور:
1- أن إرادة الله عز وجل نافذدة وأن كل ما أراده الله عز وجل واقع، وقد أشارت
الروايات أن ذلك من عزة الله تعالى، والعزة هي القوة والمنعة، وهذا التعبير يناسب
انبساط إرادة الله على تمام الواقع وألا يقع إلا ما أراد سبحانه وتعالى.
2- أن الذي ينفي كون أفعال العباد واقعة بمشيئة الله وإرادته وقدره وقضائه فهو
يوهن الله في سلطانه وهو إضعاف وإنقاص سلطان الله عز وجل، وفي هذا إشارة إلى أن
تمام ما يقع من أفعال العباد وإن خالف التكاليف = لا يستلزم وقوع خلاف ما يريده
الله عز وجل، بل يجب أن يكون موافقا لما يريده الله عز وجل.
3- أن العباد لا يفعلون شيئا إلا بإذن الله تعالى.
4- إن إقدار الله سبحانه وتعالى للعباد وتمكينهم إنما يكون بتمليك من الله عز وجل
وإقدار منه.
فالحاصل؛ إن الإرادة والمشيئة والقدر والقضاء متعلقة بأفعال العباد ، لكن من دون
أن يبلغ ذلك حدّ الجبر وسلب الاختيار، إذ أن الجبر إنما ينشأ لو كانت الإرادة
المؤدية لوقوع الفعل موجبة أو موجدة للفعل، أما لو كانت موجدة للسبب والسبب مختار
وكان من المعلوم أن السبب سوف يفعل الفعل وهناك غرض في الفعل، فهذا يكفي أن يقال
إن الله أراد هذا الفعل، فكل ما في الكون تعلقت إرادة الله عز وجل به وله فيه غرض،
فالله أعز من أن يقع في سلطانه ما لا يريد كما ورد في الأخبار، وكل ما في الكون
إما فعله الله مباشرة، أو فعل سببه الموجب بتحققه، أو فعل السبب المختار الذي يعلم
الله أنه سوف يختار الفعل الذي تعلق به غرضه سبحانه، وذلك من خلال تقوية دواعي
الطاعة أو المعصية في نفس العبد، والإذن بالفعل وعدم الإذن به، والتصرف في الأمور
الخارجة عن الاختيار التي تؤثر على الاختيار، مثل بعض المصائب التي يوقعها الله
على العباد فتجعلهم يندفعون باختيارهم لطاعة الله تعالى كفقدان الولد والمال، ومثل
بعض الفتن التي يصيبها الله بعض عباده كحب المال والمنصب والشهوات فيجعلهم يندفعون
نحو المعصية من دون أن يسلبهم حرية الاختيار في ذلك؛ وكل ذلك بحسب استحقاق العبد
التابع لأفعاله السابقة والذي يشير إليه قوله تعالى: "يُثَبِّتُ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ"
،وقوله تعالى: "كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ"
، وقوله تعالى: "وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه"، وقوله
تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ
اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" وغيرها من الآيات الكثيرة المرتبطة ببحث
الهداية والإضلال والتي نوكلها لبحث آخر إن شاء الله.
والحمدلله وحده..
1-محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج1 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، ص386 ح409؛ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي: التوحيد، باب نفي الجبر والتفويض، ح3 ص360
2- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج1 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، ص386 ح409؛ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي: التوحيد، باب نفي الجبر والتفويض، ح3 ص360
3- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج1 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، ص386 ح409؛ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، التوحيد: باب نفي الجبر والتفويض ح3 ص360؛ أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن: كتاب مصابيح الظلم ح464 ج1 ص296
4- محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، التوحيد: باب59 ح5 ص360
5- حمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن: كتاب مصابيح الظلم ح466 ج1 ص296
6- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ح407 ج1 ص384
7- محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي: التوحيد باب59 ح7 ص361 ؛ عيون أخبار الرضا –ع-: باب11 ح46 ج1 ص144
8- محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، التوحيد: باب59 ح1 ص359
9- أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن: ج1 ح238 ص244، وقدر وردت نفس هذه الرواية من دون الذيل الذي فيه الحديث القدسي في الكافي (ح404 ط دار الحديث) وفي تفسير القمي (ج1 ص24 ضمن المقدمة)
Comments
Post a Comment