بيان مبدأ السببية وأهميته



بقلم سيد علي أبو الحسن 


أهميّة مبدأ السببية

يدّعي الكثير من علماء المنطق والعقليات أن مبدأ السببية يُمثّل الحجر الأساس للفكر الإنساني، فمن دون هذا المبدأ لا يمكن أن يقوم صرح أي علم، سواء في ذلك العلم التجريبي والعلم الإنساني، وهذا المقال هو محاولة لبيان هذا المبدأ وبيان أهمّيّته بشكل عام وفي خصوص ما يرتبط بالإيمان بالله.

مفاد مبدأ السببية

يمكننا أن نُقَدّم صياغة مُبَسّطة[1] لهذا المبدأ بالقضية التالية "الحادث يجب أن يكون له سبب".

وأريد بالحادث هو "ما له ابتداء وجود"، فسقوط التفاحة حادث؛ لأن السقوط له ابتداء وجود، فهو لم يكن موجودا ثم صار موجودا، وشُربُك للماء حادث؛ لأن لوجوده بداية، فهو لم يكن موجودا ثمّ صار موجودا، وأنت أيضا حادث كما أنني حادث؛ لأنني أنا وأنت لنا ابتداء وجود، فنحن لم نكن موجودَيْن ثم صرنا موجودَيْن، وهكذا.

وأريد بالسبب هو "ما يُبَرِّر وجودَ غيره" أو[2] "ما يُعطي غيرَه الوجود"، فأنت السبب في حركة يدك؛ لأنك أعطيت تلك الحركة وجودَها، وكرة البلياردو المتحركة هي السبب في حركة الكرة التي تم الاصطدام بها؛ لأنها التي أعطتها الحركة من خلال الاصطدام، وهكذا[3].

ومن هنا يتضح المراد من قولي "الحادث يجب أن يكون له سبب"، وهو "كل شيء له ابتداء وجود فلا بد من أن يكون له سبب يعطيه الوجود ويُبَرِّرُ وجودَه".

ويتضح أيضا أن مبدأ السببية بهذه الصياغة لا يقبل حدوث شَيء من دون سبب، فهو يرفض حدوث شيء بالصدفة[4] ومن تلقاء نفسه ومن دون مبرّر.

ويتضح أيضا أن مبدأ السببية لا علاقة له بطبيعة السبب المؤثّر في وجود الحادث، فهو يُثبِت أن هناك سببا، ولا يحكي عن خصوصية هذا السبب وطبيعته، نعم ثَمّ مبادئ أخري تعطينا معلومات عن طبيعة هذا السبب وخصوصيّته، وليس هذا محلَّ بيانِها.

هذا كلّه عبارة عن تصوير لمبدأ السببية من دون التعرض لثبوته وعدم ثبوته، فهل هذا المبدأ ثابت ويُمَثِّل حقيقة واقعية؟! أم أنّه مجرد وهم؟!




[1] توجد صياغات أخرى أعقد من هذه الصياغة لم أتعرّض لها لأن الغرض هو التبسيط.

[2] المراد بالتعبيرين واحد، وتعدّد العبارة لأجل إيضاح الفكرة.

[3] ربما يُناقَش في دقة بعض الأمثلة، ولكن الغرض إيضاح الفكرة.

[4] المراد بالصدفة هنا حدوث الشيء بلا سبب، وليس المراد بالصدفة العشوائية، بحيث يكون في البين سبب ولكن هذا السبب يفعل فعله بلا غاية مقصودة، كرمي النرد من دون قصد إيقاعها في مكان معيّن.

_________________________

لا يمكن إثبات مبدأ السببية بالحس والتجربة

عند التأمّل في طبيعة هذا المبدأ نجد أنه لا يقبل أن يُستَدَلّ عليه! ومن ثَمّ لا يمكن إثباته مع أنه ثابت!!

توضيح ذلك: نفترض أنه تمّ تحريك كرة بلياردو لتصطدم بكرة أخرى.

لاحظ جيّدا!

أنت ترى الكرة المتحركة إلى أن تصل إلى الكرة الأخرى لتصطدم بها، وعند الاصطدام ترى الكرة الثانية تتحرّك، ولكن تأمّل الآن: هل الكرة المتحركة هي سبب حركة الكرة الثانية؟!

نعم، هي السبب، هذا لا شك فيه، ولكن لحظة!

هل رأيت السببية؟ هل شممتها؟ هل تذوّقتها؟ هل سمعتها؟ هل لمستها؟!!!

كلا، أنت لم تَرَ السببية!!

أنت رأيت كرة متحركة وكرة ساكنة، وعند وصول الكرة المتحركة إلى الساكنة أصبحت ترى الكرة الساكنة تتحرّك، ولكنّك لم تَرَ أبدا سَبَبَيّة الكرة الأولى لحركة الكرة الثانية!!

أجل، ليس لدينا حاسّة يمكنها أن تنال السببية رغم إيماننا بالسببية!!

لاحظ أمثلة أخرى:

هل رأيت سببية إحراق النار للورق؟! أم أنك ترى احتراق الورق بعد الملامسة مع النار من دون أن تُشاهد تلك السببية؟!

هل رأيت سببية ضرب الباب للصوت؟! أم أنك ترى حركة الضارب وبعد ذلك مباشرة تسمع الصوت من دون أن ترى أو تسمع بالسببية؟!

تأمّل جيّدا ولاحظ ما شئت من أمثلة لما نجده من أسباب في الطبيعة، ستجد أن غاية ما نجده في الطبيعة من خلال حواسّنا هو التقارن بين أمرين من دون أن نحس بالسببية!

فَتَحَصّل مما تقدّم أن مبدأ السببية لا يمكن أن يثبت من خلال الحس والتجربة؛ لأن السببية –وبكل بساطة- فكرة غير محسوسة، ولا تقبل أن تكون محسوسة بحواسّنا!!

مبدأ السببية حقيقة مُطلقة

رغم أننا لم نشاهد السببية ولم نحس بها إلا أننا نُدرِكُها! ألا ترى أنّه لو صَفَعَك أحد على وجهك فإنك ستوجّه اللوم والعتب له -وربما ضربته- مُباشرة؟! لماذا؟!

إنك تجد في قرارة نفسك أن الألم الذي أُصِبتَ به من خلال الصفعة له سبب، وأن هذا السبب هو الشخص الذي حرّك يده باتجاه وجهك، كل ذلك مع أنّك لم تشاهد سببيّته لهذا الألم! ومع ذلك تحكم عليه بأنّه هو السبب!

لا يهمّني الآن لماذا حكمت عليه بأنّه هو السبب، المهم الآن هو أنّك حكمت بأن الألم الذي وقع عليك له سبب، وأنت لا تتردد في ذلك رغم كونك لم تحس بتلك السببية.

فلماذا حكمت بذلك؟!

ببساطة، منشأ الحكم بذلك هو عقلك، أجل هو عقلك[1].

فعقلك هو الذي يقول "بما أن الألم له ابتداء وجود، فلا بد من أن يكون لهذا الألم سبب"، هذه حقيقة تُدركها جميع العقول!

ومن هنا تجد الطفل بمجرّد أن تلمسه من خلفه فإنّه يلتفت ليبحث عن منشأ هذا الحس!

وهذا الإدراك العقلي هو الذي فتح للعلماء باب البحث عن الأسباب، فلولا إدراكنا أن للحوادث أسبابا لم يكن في البين أي مُبَرّر للبحث عن الأسباب! ولم يكن أي مبرر لئن نبحث عن فاعل الجريمة بعد أن نشاهد شخصا مقتولا! ولم يكن أي مبرّر لئن نبحث عن مناشئ مرض من الأمراض، ولم يكن أي مبرر لئن نبحث عن السبب الذي يُعالج الأمراض! وهكذا!!!

فهذا الإدراك العقلي جزء رئيس من طبيعتنا، وهو عمدتنا لكل بحث واستدلال.

ومن هنا يمكننا القول –بشكل جازم- إن هذا المبدأ من المبادئ العقلية البدهية غير الحسّية، فهو مبدأ عقلي غير مأخوذ من الطبيعة؛ إذ هو من صميم العقل، وبه نتمكّن من فهم الطبيعة.

فالحاصل أن هذا المبدأ ثابت ويُعَدّ من أوليات العقل[2]؛ لأننا ندركه بشكل قاطع ونجري عليه من طفولتنا إلى يومنا هذا! ولا يمكن أن نتخلّى عنه بحال من الأحوال!

عاقبة الشك في مبدأ السببية

وقد اتضح لك أيها القارئ العزيز أن التشكيك في مبدأ السببية يؤدي إلى التشكيك في نتائج جميع العلوم؛ لأنها جميعا قائمة على مبدأ السببية!!



[1] يفترض هذا المقال أن للإنسان إدراكا لبعض الأمور التي لا يمكن إثباتها مع كونها ثابتة، فالإنسان يُدرك أنه موجود ولا يمكن أن يُثبِت ذلك لا لنفسه ولا للغير، ولكنه يرى أن هذه فكرة واضحة في ذاتها لا تحتاج إلى إثبات، وهكذا.

وفي مقابل هذا الافتراض هناك من ينكر وجود إدراكات بدهية أوّلية لا تقبل الإثبات، وهذا الاتجاه يُتّهم من قبل الاتجاه الأول بالسفسطة وإنكار الواقعية، وتفصيل هذه المسألة موكول إلى محل آخر.

[2] أوّليّات العقل هي الأفكار التي نجزم بصحّتها بمجرّد الالتفات إليها، ومن دون أن تكون مأخوذة من عملية فكرية استدلالية كمبدأ استحالة التناقض.

_________________________

واتضح لك أن الحياة من دون مبدأ السببية تؤدي إلى الفوضى المطلقة، فلا يمكن حينئذ إثبات أي جريمة أو نفيها، ولا يمكن إثبات استناد فعل إلى شخص ونفيه عن آخر، ولا يمكن إثبات استناد ولد إلى شخص ونفيه عن آخر، وهكذا!!

وهذا مما يعزز بداهة هذا المبدأ ومتانته وفطريّته.

ومن ثَمّ فالتشكيك في مبدأ السببية تشكيك في العقل نفسه، ومع التشكيك في العقل نفسِه ندخل في عالم السفسطة ولا يبقى للإدراك أي قيمة موضوعية!

وإن أصر شخص على إنكار السببية فما عليك أيها القارئ العزيز إلا أن تضربه من خلفه، فإن اعترض فأخبره أن من المحتمل أن يكون الألم بلا سبب، فما المبرر للاعتراض؟! وإن لم يعترض فاستمر بضربه ولا بأس عليك!!!

مبدأ السببية أحد المبادئ المرتبطة بإثبات وجود الإله

بعد أن اتضح مبدأ السببية واتضحت بداهته وأهميته تَحسن الإشارة إلى صلاحية مبدأ السببية للتبرير المنطقي لوجود الخالق لهذا الكون.

في الواقع يوفّر مبدأ السببية تبريرا منطقيا للإيمان بوجود خالق لهذا الكون[1]، ونكتة ذلك واضحة، فإن ثبت لنا أن هذا الكون الذي نعيش فيه حادث فلا بد من أن يكون له سبب من خلال هذا المبدأ، ومن هنا كان يُصر الملاحدة على أن الكون الذي نعيش فيه أزلي غير حادث حتى لا يلتزموا بوجود خالق لهذا الكون!

ولكن الأمر لم يستمر طويلا حتى جاءت اللحظة التي أثبت فيها العلم الحديث أن لهذا الكون بداية[2]!!

شبهة إلحادية أمام إثبات مبدأ السببية للخالق

ومن هنا حاول الملاحدة أن يُغَيِّروا الخطة! ليقولوا: إن مبدأ السببية مما لا يصح تطبيقه على حدوث الكون!! لأن مبدأ السببية مختص بما يقع داخل الكون ولا نعلم شموله لأصل حدوث الكون!!

وأنت خبير -قارئي العزيز- بأن كلامهم يمكن أن يصح لو كان مبدأ السببية مأخوذا من نفس الطبيعة بحيث يكون مُستفادا من الملاحظة والتجربة[3]، وأما مع كونه مبدأ عقليا فلا وجه لتقييده بما ذكروه، بل ينبغي النظر إلى ما يُدركه عقلك –إذ هو مصدر


[1] ينبغي الالتفات إلى أن المقصود هنا أن هناك خالقا وموجدا لهذا الكون، وأما صفات هذا الخالق الأخرى فلا يتعرض لها مبدأ السببية لوحده.

[2] وينبغي أن يُعلَم أن إثبات حدوث هذا الكون لا يتوقف على ما يقدّمه العلم الحديث؛ فإن لعلماء الكلام براهين مُحكمة على حدوث العالم، أرجو أن يوفقني الله لبيانها يوما، فالعلم الحديث لم يُقَدّم لنا ما كان مجهولا بل عزّز موقف علماء الكلام وأيّده لا أكثر.

[3] فالقوانين الطبيعية تُستَفاد من الملاحظة والتجربة، وتتبع في شمولها وعدم شمولها حدودَ الملاحظة والتجربة، فالماء الذي يغلي عند مائة درجة مئوية هو الماء الذي يكون تحت ضغط يساوي 1 ضغط جوّي، ومع تغير الضغط لا يبقى القانون جاريا، والسر في ذلك أن التجربة والملاحظة هي التي وفّرت لنا هذه المعلومات، فلا بد من أن تتقيد النتائج بحدودها، فلا يشمل القانون السابق الماء عند ضغط مختلف، وهكذا.

_________________________

الحكم وليس المصدر هو الملاحظة والتجربة-، فهل ترى فرقا بينهما؟! ألا ترى أنك بمجرد أن التفتّ إلى حدوث العالم حكمت مُباشرة بوجود سبب له؟!

ولعمري.. كيف تكون جميع أجزاء الكون الحادثة تحتاج إلى سبب ولا يكون الكون في أصله محتاجا إلى سبب؟!!!

وبتعبير آخر: لا يخلو أمر الكون إمّا أن يكون وجودُه من تِلقاء نفسه وإما أن يكون وجوده بسبب غيره، فإن كان وجوده من تلقاء نفسه فهو موجود غني بذاته، ومن ثَمّ فلماذا كانت له بداية؟! ولماذا لم يكن أزليا؟! فلمّا تبيّن لنا أنه ليس أزلي فلا بد من أن يكون محتاجا في وجوده إلى السبب، وهو المطلوب.

وكيف ما كان فالمسألة أوضح من أن تخفى ولكن القوم يراوغون هربا من الإيمان بالإله[1]! وأكثر ما يؤيد وضوحها أنهم كانوا يصرّون على أزلية العالم، فلماذا هذا الإصرار إن كان المبدأ غير واضح؟!

اترك لك التأمّل قارئي العزيز!

شبهة أخرى لهم

ولهم في المقام شبهة أخرى: وهي أن الاعتماد على مبدأ السببية يفتح المجال لئن يُسأل عن سبب الخالق نفسه، ولهذا فمبدأ السببية لا ينفع المؤمن؛ لأنه إن أثبت الخالق لهذا الكون فهو يُثبت أن له سببا، فلا يثبت مطلوب المؤمن من أن الخالق غني عن السبب!

وهذا الكلام –إن كشف شيئا- يكشف عن أن الملحد لم يُكَلّف نفسه الاطّلاع على ما ذكره المؤمنون في تقرير مبدأ السببية؛ لأن مبدأ السببية لا يقول "كل موجود له سبب" بل يقول "كل حادث له سبب"، فأين هذا من هذا؟!



[1] قال الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل "وأظن أنّه ينبغي علينا أن نقبل مؤقتا افتراض أن العالم له بداية ترجع إلى وقت محدّد وإن كان غير معروف، فهل لنا أن نستنتج من ذلك أن العالم من صنع خالق؟

الجواب: كلا إذا استمسكنا بقوانين الاستنتاج العلمية السليمة، ونحن لا نجد أقل مبرر لرفض فكرة أن الكون قد بدأ تلقائيا إلا أن يكون حدوث ذلك عجيبا! بيد أنّه ليس من قانون في الطبيعة يقول "إن ما يبدو عجيبا لا يمكن أن يحدث"!

إن استنتاج خالق هو استنتاج علة، ولا يُسَلّم بالاستنتاجات العلّية في العلم إلا حين تبدأ من قوانين علّية محسوسة، والخلق من العدم لم يره أحد!

إذن فليس مبرر للظن بأن العالم من صنع خالق يرجّح ما يبرر الظن بأنه غير ذي علة، فهما يتعارضان على سواء بقوانين العلية التي نستطيع مشاهدتها" (برتراند راسل، النظرة العلمية، ترجمة: عثمان نويه، ص108-109).

أقول: في ترجمة العبارة الأخيرة ركاكة، والمراد أنه لا يوجد ما يرجح الاعتقاد بوجود سبب لحدوث الكون على الاعتقاد بعدم وجود سبب لحدوث الكون.

ويُلاحظ على ما ذكره راسل التالي:

أولا: افترض راسل أننا نُدرك قوانين الطبيعة من خلال الخبرة الحسية، ولكنه تناسى أن هذه الخبرة الحسية لا معنى لها لولا مبدأ السببية -كما تَبَيّن لك في المقال-؛ إذ من دون هذا المبدأ لا يكون لنا علم بوجود علاقة بين الأمور التي تقارنت في الوجود مع أن العلم قائم على افتراض الأسباب والمُسبّبات! ولمّا تبيّن لك عزيزي القارئ أن مبدأ السببية مبدأ غير محسوس يتضح لك أن التفريق بين حدوث الكون وحدوث غيره من الحوادث لا مبرر له.

ثانيا: إن كان العقل لا يجد أي إشكال في الاعتقاد بأن الكون نشأ تلقائيا فلماذا نجد الأمر عجيبا؟! لماذا لا نتلقّى الأمر ببساطة؟! ولماذا لم يكن الإيمان بالإله عجيبا؟!

وأيضا.. ألا يعني التعجّب هنا أن افتراض حدوث الكون بلا سبب مناقض لمبدأ عقلي نُدرِكُه؟!

__________________________

ولهذا فالمؤمن لا يطبّق مبدأ السببية على شيء إلا بعد أن يُثبت حدوثَه، وأما من دون ذلك فلا يحق له تطبيق مبدأ السببية، بل لا يعطي المؤمن نفسَه الحق في ذلك!

نعم، يمكن للملحد أن يسأل: لماذا قمت بصياغة المبدأ بأن "كل حادث له سبب"؟ لماذا لم تكن الصياغة "كل موجود له سبب"؟

والجواب: أن الذي يُدركه العقل من مبدأ السببية هو قمنا بصياغته، ولذلك لا يطلب الإنسان سببا بمجرد وجود الشيء، بل لا بد من أن يكون لهذا الوجود ابتداء، ولهذا –كما نبّهتُ عليه سابقا- حاول بعض الملحدين أن يدّعوا أن الكون لا بداية له (أزلي) ليهربوا من السؤال حول سبب الكون.

على أن مبدأ استحالة تسلسل الأسباب يُثبت بطلان الصياغة الثانية ويرفضها؛ لأنه يُثبِت أن سلسلة الأسباب لا بد من أن تنقطع عند سبب غني عن السبب[1]، ومن ثَمّ لو كانت صياغة مبدأ السببية "كل موجود له سبب" فسنقع في التناقض في أحكام العقل؛ إذ سيُعارض مبدأ استحالة التسلسل مبدأ السببية؛ إذ إن مبدأ استحالة التسلسل يُثبِت موجودا لا سبب له ومبدأ السببية –وفقا لهذه الصياغة- يُثبِت أن كل موجود له سبب، فيتناقضان! فمبدأ استحالة التسلسل يقول "يوجد سبب لا سبب له" ومبدأ السببية بهذه الصياغة يقول "لا يوجد سبب لا سبب له"، وهذا عين التناقض! ومن المحال أن تتعارض أحكام العقل القطعية؛ لأن ذلك سيؤدي إلى اجتماع النقيضين! وهو محال!

فالحاصل أن هذه الشبهة مما لا وجه لها، ولا تصدر إلا ممن لم يبذل جهدا في الفهم والاستيعاب!

الخاتمة

كانت هذه رحلة قصيرة مع مبدأ يُمَثّل أساسا لكل فكرنا، وقد سعيت فيها أن أبيّن متانة هذا المبدأ وبداهته، وأن أبيّن صلاحية هذا المبدأ للتبرير المنطقي لوجود الخالق لهذا الكون كما أنّه يوفّر التبرير المنطقي لكل العلوم.

أرجو أن أكون قد وُفِّقت في تقريره وإيضاحه!

والحمد لله وحده.



[1] وقد وضّحت ذلك في مقالة سابقة، ولله الحمد.


Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

ما معنى أن الله خلق الأشياء بالمشيئة؟

شبهة لعن الإمام لزرارة في الروايات

ما هو التفويض الباطل؟