رهان باسكال
بقلم السيد علي أبو الحسن
مقدّمة
رهان باسكال هو حجة من حجج إثبات وجود الإله تعالى يتم بحثها في فلسفة الدين وما يُسمى بعلم الكلام الجديد، وقد انتشرت في هذه الأيام وصارت متداولة بين عموم المثقّفين، ولمّا كان لي بعض الملاحظات الخاصة في المسألة كانت مني هذه المحاولة
:عرض الحجة
المقدمة الأولى: لدينا احتمالان
مرتبطان بوجود الإله لا ثالث لهما: فإما أن يكون الإله موجودا وإما أن لا يكون
الإله موجودا
المقدمة الثانية: لدينا موقفان من
قضية وجود الإله وعدم وجوده لا ثالث لهما: فإما أن نؤمن بالإله وإما لا نؤمن به
ولا يمكن لنا أن لا نختار أحد هذين
الخيارين، فنحن مضطرون للدخول في الرهان لا محالة
:المقدمة الثالثة: آثار كلٍّ من
الموقفين السابقين في المقدّمة الثانية
: أولا: يترتّب على الإيمان بالإله أحد
أمرين وفقا للاحتمالين في المقدمة الأولى
فلو آمَنّا بالإله فالنتيجة بناءً
على احتمال وجود الإله هي الربح، بل هي ربح كل شيء؛ لأن ذلك يعني الفوز بالسعادة
الأبدية
والنتيجة بناءً على الاحتمال الثاني
هي عدم الربح وعدم الخسران؛ لانتفاء الحياة الأبدية حينئذ
:ثانيا: يترتّب على عدم الإيمان
بالإله أحد أمرين وفقا –أيضا- للاحتمالين في المقدّمة الأولى
فلو لم نؤمن بالإله فالنتيجة بناء
على احتمال وجود الإله هي الخسران، بل هي خسران كل شيء، لأن ذلك يعني المجازاة بالشقاء الأبدي
والنتيجة بناءً على الاحتمال الثاني
هي عدم الربح وعدم الخسران؛ لانتفاء الحياة الأبدية حينئذ
المقدمة الرابعة: لا ريب –وفقا لما تقدّم- أن قرار الإيمان لا خسران فيه وهو يَحتمِل الربحَ الأبدي، وقرار عدم الإيمان لا ربح فيه وهو يَحتمِل الخسران الأبدي
ولا ريب أن قرار الإيمان هو المرجّح حينئذ دون قرار عدم الإيمان
فالنتيجة: أن الإيمان بالإله واجب متعيّن وإن لم يكن ثَمّ دليل يُثبِت وجود الإله
:عقبات أمام حجة باسكال
العقبة الأولى:
رهان باسكال لا يثبت شيئا، فهو يُرَجّح موقفا عمليا لا أكثر، ومن ثَمّ فاعتباره حجةً ودليلاً غلطٌ وغيرُ منطقي وهذه العقبة لا يمكن تجاوزها، ولم يدّع باسكال أن رهانه يوفر يقينا منطقيا للاعتقاد بالله تعالى، فلا يصح اعتبارها عقبة في طريقه
نعم، وفقا لهذه العقبة سيكون معنى الإيمان بالإله في رهان باسكال هو قبول فكرة وجود الإله بمعنى ترتيب الآثار العملية، فيتعامل من لم يوقن بالإله مع الواقع كما يتعامل الموقن، ومن هنا يمكن التحفّظ على تعبير باسكال بأن رهانه يبرر للإيمان بالإله
وبعبارة أخرى: لا يمكن لرهان باسكال أن يبرر الإيمان الاعتقادي، ولكنه يبرر الالتزام بما يترتّب على فكرة وجود الإله لا أكثر
العقبة
الثانية:
يفترض باسكال أن الإيمان بلا يقين وجزم مضمون الربح على تقدير وجود الإله كما سبق، ولكن من المحتمل أن يكون الجزم واليقين بوجود الإله شرطا للنجاة في الآخرة، وهذا ما لا يوفره الرهان كما هو واضح
والذي يعطي هذا الاحتمال معقولية أن بعض الأديان اشترطت ذلك كالديانة الإسلامية
هذا، وقد تَوَسَّعَ البعض في هذه بيان هذه العقبة فطرح احتمالات متعددة تتعدد بتعدد المذاهب والأديان، فمن الممكن أن تكون النجاة مشروطة بمذهب خاص أو دين معيّن
وتوسّع البعض أكثر! فادعى احتمال ان يعذب الله المؤمنين ويثيب الملحدين فلا يتم الرهان
وعلى أي حال لا يكون قرار الإيمان مضمونا
ولعل من الممكن
إزالة هذه العقبة بالبيانين التاليين:
البيان الأول: رهان باسكال جاء في مقابل الإلحاد لا لتحقيق النجاة المطلقة، فهو يبيّن أن قبول فكرة الإيمان بالإله مقدّم على عدم القبول، ولا يريد أن يُبيّن أن خيار الإيمان لوحده كاف للنجاة، بل هي نجاة في خصوص مسألة واحدة وفي مقابل الإلحاد لا مطلقا
ولكن هذا البيان لا يصلح لدفع احتمال اشتراط اليقين في الإيمان، ومن ثَمّ لا يكون مضمون الإنجاء، فمن الممكن جدا أن يكون حال المؤمن بلا يقين كحال غير المؤمن تماما
البيان الثاني: رهان باسكال كما مرّ في البيان الأول إنّما هو في مقابل الإلحاد لا لإثبات النجاة المطلقة، وهو أيضا يأتي بعد افتراض عدم التمكّن من الإيمان بالإله بالأدلة اليقينية، ومن هنا يكون خيار قبول فكرة وجود الإله صائبا؛ وذلك لأنه مع عدم التمكّن من التيقّن بوجود الإله فلا ريب أن الإنسان غير مُلزَم بالإيمان مع اليقين لأنه غير ممكن، ومع عدم كونه مُلزِما ستكون النجاة مضمونة بمجرد الإيمان
وهذا البيان تام بناء على أن الإله على تقدير وجوده يكون عادلا، بمعنى أنه لا يُعاقب من لم تتم عليه الحجة، ومن ثَمّ يكون رهان باسكال صالحا لمن لم يثبت له وجود الإله بعد الفحص عن الأدلة
وأمّا إن افترضنا عدم إمكان إثبات عدالة الإله على تقدير وجوده فلا يتم هذا البيان؛ لأن من الممكن حينئذ أن يُعَذّب المؤمنين ويُثيب المُلحدين!
فالحاصل أن هذا البيان تام لتجاوز العقبة، ولكنّه سيجعل الرهان محدود الصلاحية بمن لم يتمكّن من الوصول إلى اليقين بوجود الإله.
العقبة الثالثة:
إن قبول فكرة وجود الإله غير خال من الخسران تماما؛ لأن هذا القرار يستتبع قيودا كثيرة في الحياة تمنع الالتذاذ بكثير مما يتوفّر للإنسان كالعبادات الشاقّة الثقيلة والمحرمات الموجودة في الأديان، وهذا نوع خسران كما لا يخفى
ويمكن تجاوز هذه العقبة بالتالي:
أولا: ما أجاب به باسكال من أن هذه القيود وإن كانت مُسَلّمة إلا أنّ في المقابل مُكتسبات أخلاقية راقية، قال باسكال “وأي ضرر يصيبك من ذلك؟! إنّك ستصبح أمينا صالحا وديعا وفيّا بارّا وصديقا صدوقا حقيقيا، في الواقع أنه لن يكون لك اللذات النتنة والمجد والنعيم ولكن إلا أن يكون لك غيرها، أقول لك: إنّه سيصيبك من ذلك مربح في هذه الحياة، وإنّك في كل خطوة تخطوها تجد من اليقين في الربح ومن العدم في كل ما تخاطر به ما تعترف معه في النهاية بأنّك راهنت على أمر أكيد غير مُتناه لم تُعطِ بمقابله شيئا"
وكأن باسكال يريد أن يقول: إننا لا نُسلّم أن هذه القيود من قبيل الخسارة؛ لأن في مقابلها مكاسب، فلا يكون الخسران معلوما
ولا يَرِد على باسكال أن هذه الخصال يمكن تحصيلها من دون قبول فكرة وجود الإله؛ لأن قبول فكرة وجود الإله يُعطي طمأنينة خاصة لا تحصل من دون ذلك، كما أن فكرة وجود الإله العادل الذي سيُقيم العدالة الكاملة في المعاد هو السبيل الوحيد لإعطاء الأخلاق قيمة مطلقة بحيث تتّصف بالإلزام، وهذا مكسب عظيم لا يُقارن بتلك الملذّات
وما أجاب به باسكال مع الإضافة الأخيرة تام لا غبار عليه فيما يبدو لي
ثانيا: لا يصح اعتبار المشاق والقيود الحاصلة في المراهنة من قبيل الخسارة، وهذه الفكرة لا تخلو من تعقيد، وسأبيّنها في النقاط التالية بإذن الله تعالى:
النقطة الأولى: للرهان جهتان: الجهة الأولى هي الفعل الذي به يتحقق الرهان، والجهة الثانية هي الأثر المترتب على الفعل الذي راهن فيه المراهن
فالمُصارع –مثلا- يدخل الرهان ليلعب ويتحمل في ذلك مشاق متعدّدة (الجهة الأولى) لأجل الفوز الذي هو غير مضمون التحقّق (الجهة الثانية)
النقطة الثانية: المشاق التي يواجهها المراهن لا تُعتبر خسارة في الرهان، نعم لو خسر الإنسان الرهان فإنه سيندم على تلك المشاق لا أكثر
النقطة الثالثة: المشاق التي يواجهها المراهن تُؤثّر على موقف المراهن من الدخول في الرهان وعدم الدخول فيه، وأمّا لو دخل الراهن فلا بد من أن يتحمّل تلك المشاق ويجتهد، ولا معنى لئن يعتبر نفس المشاق خُسرانا
النقطة
الرابعة: ذكر باسكال كما نقلنا عنه سابقا في المقدمة الثالثة أن دخول هذا الرهان
جبري ولا يمكن الخروج عنه
النقطة الخامسة: بناء على عدم وجود الإله سيكون الموت هو انتهاء كل شيء، ومن ثَمّ فلن يكون هناك مجال للندم الذي سيحصل بعد انتهاء الحياة
فإذا تبيّنت
هذه النقاط نقول: -وفقا للنقطة الثانية- لا يمكن اعتبار المشاق خسارة في الرهان،
والمشاق وإن أمكن أن تؤثر على اتخاذ الموقف في دخول الرهان وعدم دخوله –كما في
النقطة الثالثة- إلا أن ذلك غير مُتاح في المقام؛ لأن الدخول في الرهان جبري –كما
في النقطة الرابعة-، وليس في البين أي خسارة بناء على عدم وجود الإله؛ لأن الموت
سيمنع من الشعور بالنّدم –كما في النقطة الخامسة-
وقد يُقال في مقابل هذا: إن النقطة
الخامسة غير مُسلّمة؛ لأن من الممكن أن تكون النفس خالدة ولا يكون الإله موجودا
والجواب: أن هذا الاحتمال معقول، ومعه لا تتم النقطة الخامسة، ومقتضى ذلك أن يكون احتمال الخسران بالندم ممكنا بعد الموت، إلا أنّ ذلك لا يعنى أن الموقف الصحيح هو عدم الإيمان؛ إذ يبقى خيار قبول فكرة وجود الإله هو الراجح؛ لأن ألم الندم لا يُقارن بالألم الذي قد يحصل على تقدير عدم قبول تلك الفكرة مع كون الإله موجودا فعلا
وقد يُقال تعميقا لهذه العقبة: صحيح أن هذه المُشقة –ما دامت متقدّمة على نتيجة الرهان- لا تُعَدّ خسرانا ولكنّها في نفس الوقت تؤثّر على موقف المُراهن بالرهان الجبري!
فمن أُجبِرَ على الدخول في رهان يكون ربحه عبارة عن تُفاحة وخسارته هي ألم فقدان لذة التفاحة، والمطلوب لكي يفوز بالتفاحة هو أن يبيع سيارته الغالية بدينار، فإمّا أن يبيع سيارته بدينار فيربح التفاحة، وإما أن لا يبيع فيخسر التفاحة
ففي هذا المثال يُلاحظ المراهن المشقة قبل الرهن فيجد أنه لا ينبغي تحمّلها لأجل التفاحة
فالحاصل أن المشقة تؤثّر في انتخاب القرار لا محالة
والحق أن هذا التعميق متين لا غبار عليه، ولكنّه لا يؤثّر شيئا في موردنا؛ لأن المشقة المعلومة في الدنيا لا تُقارن بالمنفعة والمضرة المحتملتان في الآخرة!
وبعبارة أخرى: إن المشقة وإن كان من شأنها أن تؤثّر على القرار في الرهان الجبري وعلى الدخول في الرهان في الرهان غير الجبري إلا أنها في محل بحثنا لا تؤثّر؛ لأن المنفعة المحتملة هنا لا نهائية كما أن الضرر المحتمل لا نهائي، وهما وإن كانا مُحتَمَلَيْن غير مؤكّديْن إلا أن قيمتهما عالية جدا، ومن ثَمّ لا يصح ترجيح جانب المشقة المؤكدة على احتمال المنفعة اللانهائية والمضرة اللانهائية
وبهذا يتم
تجاوز هذه العقبة.
لدي بعض التعليقات على المقال
ReplyDelete1- قولك في ذكر البيان الثاني في العقبة الثانية " وهو أيضا يأتي بعد افتراض عدم التمكّن من الإيمان بالإله بالأدلة اليقينية، ومن هنا يكون خيار قبول فكرة وجود الإله صائبا؛ "
و لكن في هذه الحالة التي لم يجد المرء فيها أدلة يقينية على وجود الإله لا يتم البرهان لأنه مبني على أنه في حال ألحد الفرد فسيترتب على ذلك العذاب الأبدي (على فرض وجود الإله) فهذا نجده في المقدمة التي ذكرتها .
لكن هذا لا يصح إذا لم يجد المرء دليل على وجود الإله فهنا لن يستتبع الإلحاد العذاب الأبدي حتى على فرض وجود الإله .
فقولك " ومع عدم كونه مُلزِما ستكون النجاة مضمونة بمجرد الإيمان" أجل ستكون النجاة مضمونة بمجرد الإيمان و لكن أيضًا مضمونة في حال الإلحاد لأنه لم نجد دليل على وجود الإله و لن يعذب من لم تقم عليه الحجة لأنه إله عادل .
( وإن كنت قد لا أوافق على تمامية فكرة العدل هذه لكنه كما بينت يجري على أصولكم )
لكن السيد محمد باقر الصدر يرى وجوب الالتزام بالتكاليف المحتملة وينفي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ويجري على أصالة الاحتياط.
ReplyDelete